بيبي جلاب الوصايا

في مشهدٍ سياسيّ لا يخلو من وقاحةٍ تاريخية، وقف بنيامين نتنياهو، المطلوب للعدالة الدولية بجرائم حرب، ليس أمام المحكمة، بل في البيت الأبيض، ليقدّم بإسم “السلام” ترشيح دونالد ترامب — الرئيس الأمريكي الذي قضى سنواته في السلطة يهدد بالقنابل، ويبني سياسات الإقصاء، ويبتز العالم بالسلاح والمال — إلى جائزة نوبل للسلام.
ما الذي يعنيه هذا الترشيح؟
وأي معنى يتبقى لجائزة نوبل حين تصبح أداة تبييض لأكثر الشخصيات تحريضًا على العنف والانقسام العالمي؟
في 7 تموز 2025، قدّم بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل المطلوب للعدالة الدولية، خطاب ترشيح لدونالد ترامب لنيل جائزة نوبل للسلام، قد تبدو هذه الخطوة مجرد خبر عابر ضمن موسم سياسي مشحون، لكنها في الحقيقة تقف كواحدة من أكثر اللحظات تهكمًا في تاريخ الجائزة؛ رجل متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، يزكّي رئيسًا لم يكفّ يومًا عن التحريض والعقاب الجماعي والازدراء الصريح لفكرة القانون الدولي.
هذه الواقعة ليست مجرد مفارقة، وليست لحظة عبثية عابرة.
نتنياهو لا يكتفي بتجاهل مذكرات التوقيف الصادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية، بل يعتلي المنصة ليرشح أحد شركائه في مشروع الانحطاط الأخلاقي العالمي إلى واحدة من أرفع الجوائز المعنوية.
هذا ترشيح ليس بإسم السلام، بل باسم الإفلات من العقاب.
ترشيح صادر عن رجل تتهمه منظمات حقوق الإنسان بارتكاب مجازر ضد المدنيين في غزة، بإغلاق المعابر أمام الجرحى، بقصف الأحياء الآهلة، باستهداف الصحافيين والمسعفين، وبتحويل القانون إلى ورقة ضغط دبلوماسي، وبدل المثول أمام العدالة، يتذلل بأناقة ويقرر أن يكتب خطاب توصية.
فمن يرشّح من؟ وما الذي يعنيه هذا الترشيح؟ بل، ما الذي تبقّى من جائزة نوبل إن تحوّلت إلى أداة رمزية في يد أنظمة تتغذى على الإفلات من العقاب؟
نتنياهو بيغزِل ناعم!
في الوقت الذي تُعدّ فيه لجنة نوبل ملفات الشخصيات الجديرة بالتكريم، يقف نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية ليكتب خطاب ترشيح سياسي صرف.
الرجل الذي تدير مؤسسته العسكرية حروبا لا تنتهي ضد أطفال ومنازل ومستشفيات، قرّر أن يمنح صكّ السلام.
ليست هذه خطوة ساذجة، بل مدروسة، محاولة لتوريط رمزية نوبل في عملية تبييض سياسي متعمدة.
وليس غريبًا أن يكون المستفيد هو دونالد ترامب، شريك نتنياهو في سياسات الكراهية، الانسحاب من الالتزامات الدولية، والرهان على فوضى السلاح بدل القانون.
ترامب و وخياله الخصب!
إن كان نتنياهو قد استغل الجائزة كمسرح رمزي لتصفية تهمه، فإن ترامب لا يقل عبثًا. خلال فترة حكمه، انسحب من اتفاقيات المناخ، خفّض تمويلات الأمم المتحدة، قايض القيم بالمصالح.
صُنع السلام لا يعني عقد صفقات مشوّهة كالتي حملتها اتفاقيات أبراهام، بل يتطلّب اعترافًا بحقوق الشعوب، ومنها الشعب الفلسطيني الذي لم ينل من عهد ترامب سوى العزل، التجويع، والتواطؤ مع آلة الحرب.
أثارت ترشيحات ترامب استهجانًا واسعًا، واعتبرها ناشطون في حقوق الإنسان إساءة لمكانة المحكمة الجنائية الدولية.
أشار أندرو ستروهلين، من هيومن رايتس ووتش، إلى أن انسحاب إدارة ترامب من مؤسسات دولية أساسية “يُعدّ تراجعًا خطيرًا عن مبادئ العدالة الدولية.”
وقال مايكل لينك، مقرر الأمم المتحدة السابق، إن العلاقة الوثيقة مع الولايات المتحدة تحمي إسرائيل من العقاب، مضيفًا أن ” قبول مثل هذه الترشيحات هو تآكل بطيء لكن قاتل لمكانة القانون الدولي.“
أي قبول لترشيح كهذا يتحول إلى تواطؤ رمزي مع انحرافات جسيمة عن قواعد الحرب والحقوق.
في المقابل، ووفق تقاليدها، لم تُعلق لجنة نوبل على الترشيح ( لجنة نوبل لا تصدر بيانات عن الترشيحات قبل إعلان الجائزة، وهذه سياستها الدائمة)، ما قد يُفسَر كصمت غير مبرر في لحظة حساسة.
مسلسل التراجع
الجائزة التي منحت لمارتن لوثر كينغ، نيلسون مانديلا، و ديزموند توتو، وتوكل كرمان
مهددة اليوم بأن تكون غلافًا ملوّثًا لحقبة سياسية متغطرسة، بلا أخلاق ولا ذاكرة.
ماذا يعني أن تُدرَج أسماء هؤلاء، جنبًا إلى جنب مع ترامب؟
الجائزة، منذ نشأتها، كانت محاولة لتثبيت أخلاقي في عالم مفكك. لكنها اليوم، إن سارت في هذا الطريق، ستكون قد سلّمت أوراق اعتمادها لمنظومة الإفلات من العقاب، وأضاعت رسالتها تحت ركام المجاملة السياسية.
القانون مفتاح الجنة!
المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرة توقيف بحق نتنياهو، بناء على أدلة تشير إلى استهداف المدنيين، تقييد المساعدات، وفرض حصار جماعي يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية.
وما الترشيح إلا محاولة لجرّ هذه الرمزية إلى خانة الإهانة الصريحة للعدالة، لتبدو الجرائم وكأنها خلاف في وجهات النظر، لا خرق موثّق للقانون.
هل من مُجيز؟!
المشكلة لا تكمن فقط في الأشخاص، بل في المعاني.
نوبل ليست جائزة عادية، بل أداة تصنع ذاكرة جماعية. تُدرّس في المدارس، يُستشهد بها في المؤتمرات، وتُطبع صور الفائزين بها على كتب التاريخ.
ترشيح ترامب من قبل نتنياهو يعني أن القتل قد يصبح اجتهادًا سياسيًا، وأن القصف قد يُفهم كـ”إستراتيجية تفاوض”، وأن السخرية من حقوق الإنسان تُكافأ بلجنة ترشيحات.
مهم ولا عادي؟!
لجنة نوبل قادرة، بقرار واحد، على إعادة المعنى إلى مكانه الصحيح. برفض هذا الترشيح، تُثبت الجائزة أنها لا تُشترى، ولا تُستعمل كسلاح ناعم لتطبيع الظلم.
لا نتحدث عن استحقاق، بل عن حدود ما يمكن احتماله من السخرية.
هزار حسين
حيفا | فلسطين المُحتلة.