عالم يتهاوى

– السقوط الذي لم يعد مجرّد استعارة –

لم يعد مشهد المباني المنهارة تحت القصف صادمًا، ولم يعد الدمار حدثًا استثنائيًا.

نحن لا نعيش لحظة انهيار، بل ندرك—متأخرين كعادتنا—أن السقوط كان جاريًا طوال الوقت، بطيئًا، غير مرئي، إلى أن أصبح فجأة أوضح من أن يُنكر.

بين الرواية والواقع 

رواية “عالم يتهاوى“ (Things Fall Apart) للكاتب النيجيري تشنوا أتشيبي، الصادرة عام 1958 عن ”دار ويليام هينيمان“ في المملكة المتحدة، تُعد واحدة من أهم الأعمال الأدبية الأفريقية وأكثرها تأثيرًا عالميًا.

تسلط الضوء على التصدع الذي أصاب النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمعات الأفريقية إثر الاستعمار الأوروبي؛ بأسلوب واقعي نابض بالحياة، تقدم الرواية نقدًا عميقًا لتأثير الاستعمار على الهويات الثقافية وتُعيد سرد التاريخ من منظور أفريقي، في مواجهة السرديات الاستعمارية السائدة.

تدور أحداث الرواية في أواخر القرن التاسع عشر في قرية ”أوموفيا“ بجنوب شرق نيجيريا، وتروي قصة         ” أوكونكو“، رجل قوي ومهاب في مجتمعه، يجسد قيم الشجاعة والعمل الجاد، لكنه في الوقت ذاته محاصر بالخوف من الضعف الذي كان يراه في والده.

تتبع الرواية حياة أوكونكو وصراعه الداخلي والخارجي في ظل تغيّرات اجتماعية وثقافية كبرى.

ينهار العالم أمام الشخصيات لا كحدثٍ مفاجئ، بل كنتيجة حتمية لمجتمعٍ يعيش فوق فراغ. الأنظمة السياسية، العلاقات الاجتماعية، القيم الأخلاقية—كلها تبدو متماسكة، لكنها في الحقيقة مجرد قشرة رقيقة تغطي هشاشةً عميقة. كل شيء قائمٌ على التوازن، لكن هذا التوازن هشٌ جدًا، وأيّ حدث صغير قادرٌ على قلبه رأسًا على عقب.

ليست  رواية عن حدث كارثي، بل عن حقيقةٍ نتجاهلها: لا شيء ينهار فجأة، لا المدن، ولا الحضارات، ولا القيم. الانهيار سيرورة طويلة، يبدأ حين تتآكل الأسس بينما السقف ما زال في مكانه، وعندما يسقط كل شيء في النهاية، يبدو وكأنه حدث لحظيّ، لكنه في الحقيقة لم يكن سوى النتيجة المنطقية لزمنٍ ممتد من التصدّع،  تمامًا كما يحدث الآن، حيث لا تنتهي المدن إلى الأنقاض بسبب القصف فقط، بل لأن التواطؤ على تدميرها بدأ منذ وقت طويل.

من مدن تتحول إلى أنقاض، إلى مجتمعات تقف على حافة الانفجار، إلى أنظمة فقدت آخر ذرة من شرعيتها، إلى مؤسسات حقوقية لم تعد أكثر من ديكور لواقع وحشي—إننا نعيش داخل الرواية، لا نقرؤها فحسب.

تحمل الرواية بُعدًا عبثيًا واضحًا، لكنها لا تكتفي بذلك. فالسقوط هنا ليس مجرد فكرة فلسفية، بل واقع سياسي واقتصادي وأخلاقي.

في عالم يتهاوى، نجد أن العبث ليس مجرد صفة للعالم، بل هو نتيجة لمنظوماتٍ صُمّمت لتقود إلى هذا الخراب.

تمامًا كما هو الحال في الأنظمة التي تحكم عالمنا اليوم، حيث تخلق الأزمات، ثم تتصرف وكأنها تفاجأت بها.  تسقط المدن، ثم يُقال إن ذلك كان ضروريًا لأمنٍ لم يعد أحد يعرف معناه.  تُدمَّر المجتمعات، ثم يتم الحديث عن إعادة الإعمار، كأن البشر يمكن أن يُعاد تشكيلهم مثل الطوب والإسمنت.

لكن السؤال الأكثر رعبًا ليس لماذا ينهار العالم؟  بل، ماذا بعد الانهيار؟

كيف نعيش داخله دون أن نتحوّل إلى جزء منه؟

في الرواية، لا يوجد مخلّص، ولا معجزة، ولا إعادة بناء. هناك فقط أولئك الذين ينجون من السقوط الأول، ليجدوا أنفسهم في عالم جديد، أكثر هشاشةً، وأكثر عرضةً للانهيار القادم.

وهذا هو التوازي الأكثر خطورة مع واقعنا اليوم: فبعد كل انهيار، يتم بناء نظام جديد، ليس لأنه أكثر استقرارًا، بل لأنه مُعدّ للسقوط مجددًا، في دورة لا تنتهي من الدمار وإعادة الترميم، وكأننا نحيا داخل تجربة محكمة التصميم، هدفها الوحيد هو أن نبقى في حالة سقوطٍ دائم، دون أن نصل إلى القاع أبدًا.

على مر التاريخ، لم يكن الانهيار مجرد نتيجة عرضية لاضطراب سياسي أو اقتصادي، بل أداة مُتعمَّدة لتثبيت السلطة. كل نظام يدّعي تمثيل إرادة الشعب يستخدم أزمات مصنوعة أو مُدارة لفرض المزيد من السيطرة. في الإمبراطوريات القديمة كما في الأنظمة الحديثة، الانهيار المدروس هو أفضل طريقة لتغيير قواعد اللعبة دون الحاجة إلى مساءلة حقيقية. حين تسقط مدينة أو تنهار دولة، لا يُطرح السؤال حول من المسؤول بقدر ما يُطرح حول من يملك القدرة على إعادة البناء. وهكذا تتحول الكوارث إلى فرص ذهبية للنخب لتوسيع ثرواتها وتعميق نفوذها، إذ يتقنون فن إعادة الترميم ليس لصالح الشعوب، بل لضمان استمرارية دورة النهب.

في غزة، 

كما العديد من المدن في العالم العربي وغيره من المناطق الممزقة بالصراعات، تشهد تدميرًا متسلسلًا، كنتيجة حتمية لتوازن هش بين القوى الكبرى، التي تتلاعب بالأزمات لتعيد توزيع القوة والموارد لصالحها.

كما في الرواية، حيث يتحكم الاستعمار في مصير المجتمعات، نجد أن القوى العالمية، بحروبها أو بتجاهلها لمعاناة الشعوب، تُبقي على هذه الأزمات مفتوحة ليتسنى لها إعادة بناء أنظمة جديدة.

في غزة، كما في العديد من المدن التي تمزقها الحروب، لا يكمن الألم فقط في اللحظات التي تشهد فيها المدينة انهيارها، بل في معرفة أن هذا الانهيار

ليس عطب في النظام،بل وظيفة أساسية له.

 

هزار حسين 

حيفا | فلسطين المُحتلة.

زر الذهاب إلى الأعلى