“ماذا تفعل الأمهات بعد دفن قلوبهنّ؟”
سألت أم خليل لكن لم يُجبها نجلها الملقى بجسده البارد أمامها بلا حراك…

خاص – قناة القدس: في بداية حرب الإبادة وبعد اجتياح الاحتلال الإسرائيلي لـمناطق واسعة في شمال غزة وفرض حصار قاسٍ أجبر الأهالي على عيش مجاعة طاحنة.
كانت عائلة بخيت تعيش تحت وطأة القصف والرصاص في منزلهم بمنطقة الصفطاوي، وفي إحدى صباحات الإبادة استيقظت السيدة رانيا بخيت “أم خليل” برفقة طفلتها رانيا التي تحمل اسم والدتها والتي لم تتجاوز الـ14 عاماً بعد، لتصنع الخبز في آخر ما تبقى لهم من الدقيق المجبول بالقهر وانتظار المجهول.
طحين معجون بالرحيل
تقول أم خليل لقناة القدس:”سألتني رانيا ماذا سنفعل بعد ذلك فلم يتبقَ لدينا طحين، وكان هذا آخر ما نطقته رانيا وسمعته أنا”
ولم أشعر بشيء بعدها، وكأنها لحظات انطفاء كاملة للجسد.
وأكملت:”استيقظتُ وأنا مُلقاة على أرض المطبخ، لم يخطر في بالي سوى “رنوش” تحسست الأرض حتى أمسكت إحدى قدميها وكنت أسمعُ أنينها الخافت فقد كان فوقها عامود باطون كبير، فقد قُصف بيتنا وتحوّل الى ذكريات”
بكت أم خليل وهي تخبرنا:”جاء نجلي خليل راكضاً وانتشلها من تحت الردم وحملها مسرعاً خارج المنزل، وبدأ بإجراء الإسعافات الأولية لها إلى أن انتبه لبطنها الذي ينزف منذ زمن وأن شظية أصابت الكبد، فَهِمَ خليل الذي يعمل طبيباً أن رانيا لن تنجو منها، في ظل الحصار المطبق وصعوبة إيصالها للمشفى”
وهنا ندرك أن المعرفة وكأنها بلاء على الانسان ، فخليل جلس يودع رانيا ويراقب أنفاسها الأخيرة، ليته لم يدرك أنها ترحل، ليتنا عشنا على أمل بقائها..
الحضن الأخير
أحد الجيران الذين عاشوا الحدث تحدثوا لقناة القدس: “حوّل خليل ساحة مدرسة عمواس القريبة من المنزل إلى غرفة عمليات بسيطة، حضّر محلول ملحي وصنع أدوات طبية تفي بالغرض للقيام بالإسعافات اللازمة لرانيا وعدد من أفراد الحارة الذين أُصيبوا إثر المجزرة المروعة”
وأضاف شاهد العيان: “كان الجميع يعلم أن رانيا لن تصمد أكثر في ظل الحصار المفروض على شمال القطاع، واستحالة الوصول إلى أي مشفى، في منتصف الليل حضنت رانيا خليل بغرابة وبكت بشدة وهي تخبره أنه المفضل والأقرب لقلبها من بين جميع أفراد العائلة حتى سلمت روحها وهي بين يديه”
دُفنت رانيا وعدد من شهداء الحارة في باحة المدرسة داخل قبر جماعي؛ لخطورة الأوضاع وامتلاء المقابر بجثامين الشهداء إثر حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين داخل القطاع منذ عام ونصف.
عام الحزن.. خليل يلتقي برانيا
عادت أم خليل وهي مُنفطرة القلب لتُخبرنا:” عشنا رحيل آخر قاتم السواد، بعد صلاة فجر إحدى الأيام الصعبة التي تعيشها غزة، وانتظار الارتقاء في كل لحظة، جلس خليل ليراجع بعض العمليات قبل أن يذهب لعمله في مجمع الشفاء، توسلت له والدته ألا يغادر لصعوبة الأوضاع وخطورتها، ولكنه أصر على تأدية واجبه فلا يوجد في غزة وشمالها المحاصرتين أطباء، خرج خليل وكان موعدنا صلاة المغرب جماعة، لكنه لم يأتِ ولم يعتاد التأخر ولو ثانية”
وأكملت لقناة القدس: “جاء اتصال من زميل خليل ليُخبرنا بأنه أصيب في قصف على باب المشفى، ذهب والده وشقيقه مُسرعين لمجمع الشفاء الطبي ليجدوا خليل في غرفة العمليات بعد أن أُصيب بشظية بالدماغ فجرت الدماء برأسه، وتركت نزيفاً لا يتوقف، ارتقى خليل فجر اليوم التالي ولحق بحبيبته رانيا التي أظن من شدة حبها له لم تستطع الاعتياد على الحياة الأخرى بدونه”
وختمت أم خليل: ” عندما استشهدت رانيا قال مواسيا لي، (نيالها ارتاحت) ،سألته وأنا يا خليل ماذا أفعل كيف تعيش الأمهات بعد رحيل أبنائها؟! لم يُجيبني حينها، فكررت سؤالي عليه وهو مسجّى بدمائه: ماذا أفعل الآن كيف أعيش بعدكم؟ ولكنه أيضا لم يُجبني وابتسم لي وهو ملقى، أو رُبما هُيئ لي ذلك!”